في الأسبوع الأول من شهر مارس من العام 1985 نظم الرئيس “معاوية ولد سيد أحمد الطايع” بنسخته القديمة زيارة تاريخية لمدينة النعمة، وفي الأسبوع الأول من شهر مايو من العام 2016 سينظم الرئيس “معاوية ولد سيد أحمد الطايع” بنسخته الجديدة زيارة تاريخية أخرى لمدينة النعمة، وهي الزيارة
التي يراد لها أن تكون زيارة غير مسبوقة.
لا جديد في الزيارتين التاريخيتين، ذلك ما يقوله التاريخ، وذلك ما تقوله أيضا الجغرافيا، فالجغرافيا التي كانت تقول لنا بأن الأرض تدور، أصبحت تقول لنا اليوم بأن الزمان في بلادنا يدور، وبأنه قد دار دورته في الثلاثة عقود الأخيرة، فإذا بنا نكتشف في العام 2016 بأننا قد عدنا إلى العام 1985.
واحدٌ وثلاثون عاما مرت بين الزيارتين التاريخيتين، ولكن لا شيء تغير في مدينة النعمة سوى أن الأطفال الصغار الذين استقبلوا معاوية بنسخته القديمة في شهر مارس من العام 1985 سيستقبلون غدا الرئيس معاوية بنسخته الجديدة، وذلك بعد أن اقتربت أعمارهم من سن الأربعين، سيستقبلونه وهم يحملون من الشهادات ما يحملون، ومن المعاناة ما تنوء بحمله العصبة من الرجال.
ثلاثة عقود مرت من أعمار أهلنا في النعمة، لم يقصروا خلالها في استقبال الرؤساء رئيسا بعد رئيس، صفقوا بأياديهم وبأرجلهم لكل الرؤساء، كما فعل غيرهم في المدن الأخرى، وزغردوا ملء حناجرهم، وخرجوا عن بكرة أبيهم في استقبالات حاشدة لكل الرؤساء، وأعلنوا عن دعمهم اللامشروط، وقبلوا دائما بأن يظلوا مجرد خزان انتخابي لا يذكره الرئيس إلا في المواسم الانتخابية، أو في أيام الأزمات السياسية، ورغم ذلك كله فلم تعرف منطقتهم أية تنمية، ولم تعرف حياتهم أي تغير نحو الأفضل، لا شيء تغير في مدينة النعمة فيما بين الزيارتين، سوى أن المدينة قد أصبحت أكثر بؤسا وفقرا وتهميشا.
وإذا ما كان لأهلنا في الحوض الشرقي من درس يمكن أن يستخلصوه من استقبالاتهم للرؤساء خلال الثلاثين عاما الماضية، فسيكون ذلك الدرس هو أن التصفيق والاستقبالات الحاشدة والدعم اللامشروط للرؤساء لن يجلب لمنطقتهم أية تنمية، بل على العكس من ذلك، فإنه لن يجلب لها إلا المزيد من البؤس والفقر والتهميش .
وإذا ما كان لهم أن يخرجوا باستنتاج من ذلك الدرس، فسيكون ذلك الاستنتاج مفاده أن غياب البنية التحتية في المدن يتناسب طرديا مع مبالغة ساكنة تلك المدن في تنظيم الاستقبالات الحاشدة وتجديد الدعم اللامشروط للرؤساء. لقد كانت مدينة النعمة من أكثر المدن الموريتانية دعما للرؤساء، وكل المدن الموريتانية بالغت في دعم الرؤساء، ولذلك فهي اليوم من أكثر المدن الموريتانية فقرا وتهميشا وبؤسا، وكل المدن الموريتانية تعاني من الفقر والتهميش والبؤس.
ألم بحن الوقت لأن يجرب أهلنا في الحوض الشرقي أسلوبا آخر للتعامل مع الرؤساء؟ ألم يحن الوقت لأن يعلموا بأن استخدام نفس الأساليب يؤدي دائما إلى نفس النتائج، وبأن المزيد من الدعم اللامشروط، والاستقبالات الحاشدة، والتصفيق للرؤساء لن يجلب لمنطقتهم إلا المزيد من التخلف والتهميش والفقر.
وإذا كان أهلنا في النعمة ـ وحالهم في ذلك كحال أهلنا في بقية المدن الموريتانية ـ قد جبلوا على تنظيم الاستقبالات الحاشدة للرؤساء، وإذا لم يكن بإمكانهم ـ ولأسباب خُلقية أو خَلقية ـ أن يقاطعوا زيارة الرئيس، فلا بأس، فليستقبلوه، ولكن فليستقبلوه هذه المرة بمياه من بحيرة أظهر، وليسقوه من الألبان التي أنتجتها مصانعهم، وليطعموه من منتجات مصانع اللحوم في منطقة الشرق الموريتاني، ولا ينسوا من بعد ذلك كله أن يرسلوا معه كميات كبيرة من الأعلاف التي أنتجتها مصانعهم كهدية لمنمي الولايات التي لا توجد بها مصانع للأعلاف. ألم يكن من المفترض بأن تكون منتجات تلك المصانع قد أصبحت ـ ومنذ سنوات ـ تغطي استهلاك المدينة وغيرها من المدن الموريتانية؟
لا توجد بمدينة النعمة مصانع تلك حقيقة يعلمها أهلنا في النعمة، ويعلمون أيضا بأنه لا يوجد رجال أعمال من أبناء المدينة. لا يوجد مساهم من أبناء المدينة في رأس مال ما يقترب من عشرين مصرفا وبنكا بالبلاد، أما أن يكون من الملاك لتلك البنوك فذلك مما لا يحلم به أهل المدينة، ولا يوجد من بين أبناء المدينة من حصل في حياته على رخصة لشركة تأمين أو على رخصة لشركة تنقيب، ولا وجود يذكر لرجال أعمال المدينة في اتحاد أرباب العمل الموريتاني.
فيا أهلنا في النعمة، ألم يقل لكم الرئيس في زيارته الماضية لما أظهرتم شيئا قليلا من الاستياء بسبب عدم وجود رجال أعمال من مدينتكم، ألم يقل لكم بأن سيادته لا تصنع رجال الأعمال. ألا تتوقعون يا أهلنا في النعمة أن يقول لكم هذه المرة بان سيادته لا تصنع وظائف لمن أراد منكم عملا، وبأنها لا تصنع أطباء ولا معلمين ولا أساتذة إن حدثتموه عن نقص الأطباء والأساتذة في مدينتكم.
ومن قبل ذلك ألم يقل لكم الرئيس في النسخة الرابعة من لقاء الشعب التي تم تنظيمها بمدينتكم بأن سيادته قد أنجز في المتوسط نسبة 90% من برنامجه الانتخابي؟ أَوَ لم يقل لكم في نفس اللقاء وبلغة فصيحة وصريحة بأن ولايتكم ظلت منسية في مأموريته الأولى فهل يعني ذلك بأنها لم تكن ضمن برنامجه الانتخابي أو بأنها كانت في برنامجه الانتخابي ولكن الوعود الانتخابية الخاصة بها قد تعمد أن يجعلها ضمن 10% التي لم تنجز من برنامجه الانتخابي؟
ألم يعدكم الرئيس ويمنيكم من قبل ذلك؟ أوَ لم يقل لكم في يوم 28ـ 06 ـ 2010: “وسنقوم بإذن الله بتوسيع شبكة الكهرباء وتحسين واجهة المدينة ونحن عاكفون على حل مشكلة المياه فيها ضمن الالتزامات التي تعهدنا بها وسنفي بذلك بإذن الله في أسرع وقت ممكن”.
أوَ لم تمر ست سنوات على تلك الوعود؟ أوَ لم تفض الأموال في خزائن الدولة خلال تلك السنوات؟ فهل تم توسيع شبكة الكهرباء؟ وهل فاض الماء في المدينة أم أنها ما تزال تعاني من العطش؟ وهل تحسنت واجهة المدينة خلال تلك السنوات ثم أصابها من بعد ذلك زلزال فحول ذلك العمران الموعود إلى خراب؟
ألم يعد الرئيس أهلنا في أنبيكت لحواش بالكثير من العمران، ألم يمنيهم؟ ألم يقل لهم في يوم 21 ـ 11ـ 2010 بأن “مدينة انبيكت لحواش ستكون من أفضل وأرقى المدن لأنها أنشئت على أسس علمية ووفق مخططات عمرانية عصرية ومدروسة”.
فهل أصبحت أنبيكت لحواش من أفضل وأرقى المدن؟ وهل يمكن مقارنتها اليوم مع أختها الصغرى : مدينة الشامي؟
لو صدقكم الرئيس القول لقال لكم مثلما ما قال رئيس الوزراء البريطاني”ونستون تشرشل” لشعبه في واحد من أشهر خطاباته في العام 1940: ” لا أعدكم إلا بالجوع والعرق والدم والدموع”. لم يكن بإمكان “ونستون تشرشل” أن يعد بغير ذلك في سنوات الحرب العالمية الثانية، ولذلك فقد صفق له شعبه بحماس، ولو أن الرئيس وعد أهلنا في النعمة بالجوع لاستحق التصفيق، لأنه في هذه المرة يكون قد وعد بما سيحقق. أما أن يعد الرئيس أهلنا في النعمة وفي بقية المدن الموريتانية، برغد العيش، ثم تمر ثمان سنوات امتلأت فيها خزائن الدولة بالعملات الصعبة، ومع ذلك فلا تتحسن أحوال الناس، بل تزداد سوءا. إن الرئيس الذي يفعل ذلك ليستحق شيئا آخر غير تجديد الدعم اللامشروط.
كارثة أخرى ستحل بمدينة النعمة خلال أيام الزيارة، إنها كارثة قدوم الأطر من أبناء المدينة لاستقبال الرئيس، ولتجديد الولاء له. إن الأطر يمثلون بحق كارثة، فهم لا يتذكرون مدينتهم إلا عندما يزورها الرئيس، أما في غير تلك الأوقات فإنهم ينشغلون بنهب وسرقة المال العام. إنهم يأتون بعد طول غياب ليقولوا للرئيس بأن مدينتهم بألف خير، يقولوها بسياراتهم الفاخرة، وبأثوابهم الأنيقة، وبعلامات الفساد البادية على نواصيهم. إنهم يأتون فقط لكي يحجبوا رؤية البؤس والشقاء عن الرئيس، وذلك مع العلم بأن الرئيس لم يأت أصلا للإطلاع على أحوال المواطنين وعلى أحوال المدينة، وحتى ولو افترضنا جدلا بأنه قد جاء للإطلاع على أحوال أهلنا في مدينة النعمة، فإنه لن يتمكن من ذلك بسبب مئات أو آلاف الأطر والوجهاء الذين سيحلون بالمدينة خلال أيام الزيارة.
يعلم البسطاء في مدينة النعمة بأن أطر مدينتهم لم يجتمعوا يوما لتدارس أفضل السبل لتنمية مدينتهم، وبأنهم لم يطلقوا يوما قافلة صحية واحدة لعلاج المرضى في المدينة، وبأنهم لم ينظموا أنشطة ثقافية في المدينة، وبأنهم لم يفتحوا فصلا واحدا لتقديم حصص تقوية مجانية لأبناء الفقراء في المدينة.
يعلم البسطاء في المدينة بأنه عندما يتمكن أي واحد من أولئك الأطر من أن يلتقي بالرئيس منفردا أو في ملأ، فإنه لن يحدثه قطعا عن مشاكل المدينة، وإنما سيحدثه فقط عن ترقية، أو عن وظيفة لابن أو لأخ، أو عن صفقة، وكأن المدينة ستحل كل مشاكلها عندما يتم تحقيق المطالب الخاصة بهذا الإطار أو ذاك الوجيه.
لاشيء ينتظر من زيارة الرئيس للحوض الشرقي، ولا فائدة ترجى من أطر المدينة الذين سيحلون بالمنطقة خلال أيام الزيارة، ولو أن أهلنا في النعمة قرروا في هذه المرة أن لا يغادروا مساكنهم خلال الزيارة، وأن لا يعلنوا عن تجديد دعمهم اللامشروط للرئيس، فلو أنهم قرروا ذلك لعلم الرئيس بأن الحوض الشرقي لم يعد مجرد خزان انتخابي، وإنما أصبح خزان كرامة وكبرياء، وساعتها سيضطر الرئيس لأن يوقف تهميش الحوض الشرقي، وأن يجلب إلى أهله تنمية حقيقية.
بإمكان أهلنا في الحوض الشرقي أن ينظموا استقبالا غير مسبوق للرئيس، وبإمكانهم أن يطلقوا عشرات المبادرات المطالبة بمأمورية ثالثة ورابعة، بل وبإمكانهم أن يطلبوا من الرئيس بأن ينصب نفسه ملكا مدى الحياة ليبايعوه، بإمكانهم أن يفعلوا كل ذلك وأكثر من ذلك، ولكن عليهم في هذه الحالة أن يتوقعوا المزيد من البؤس والتهميش لمنطقتهم، فذلك هو ما تقوله ثلاثة عقود من الاستقبالات الحاشدة ومن الدعم اللامشرط للرؤساء.